عندي نجمة الصحافة والميكرفون منذ طفولتي
حاورها: كابي يوسف
في سوريا نصف الجميلة التي يفوح عطرها بالياسمينة، وفي كندا نصفها بالزهرة، أي زهرة كندا.. ولأنها من وطن الحضارة والجمال فهي أرزة لبنانية وبامتياز.. إعلامياً بالنسبة لي هي قدوة ومثال، قلباً وقالباً. صوت وفكر وصورة.. تابعوا معنا هذا الحوار المميز مع الاعلامية اللبنانية المخضرمة السيدة كوليت ضرغام.
كوليت: شكرا زميلي وصديقي كابي على كلماتك الدافئة. وهل هناك ماهو اعطر من الياسمين الدمشقي الذي نشتاقه. اشكركم أسرة زهرة كندا واهنئكم بهذا الانجاز واسمح لي أن اعبر عن افتخاري بما تقومون به.
زهرة كندا: بيروت هي الهم والاهتمام. نعزيكم ونعزي أنفسنا بالفاجعة التي حلت في مرفأ بيروت. طالبين من الرب أن يستخدم هذه الكارثة للخير. ماالذي تحكيه لنا عن بيروت وأنا اعرف مكانتها في قلبك؟
كوليت: بيروت الوجع الدائم ومن يهبط إلى الجحيم لا يصعد للأسف ولكن لأننا ابناء النور فنحن نؤمن أن ما بعد الموت هناك قيامة. لا زلت احب بيروت ونحن نخرج من كل مصيبة أقوى، إنه سر لا نفقهه ولا نفهمه. كمثل أيوب كانت بيروت نزيهة مستقيمة تخاف الله وتحيد عن الشر فجُعل كل مالها في قبضة الشيطان. تولانا الظلام وظل الموت. يابني أمي هل صمت آذانكم واعميت بصائركم؟ نخجل منك يابيروت نخجل أن نقول لك للمرة المليون: “قومي من تحت الردم” فكلنا نحبك ياساكنة في شرايينا. يا روحي يا بيروت كيف قتلوك؟ أيها الأشرار نصيبكم ملعون في الأرض. ستذبلون وتضمحلون كالحشائش وبيروت تعود فتنعم بضعف ماكان لها من قبل. بيروت راجعة طالما نحن مؤمنون بها وهي كانت وتظل نقطة ضعفنا وحبنا الأول آه يابيروت. تحياتي لكل ذوي المنكوبين والضحايا والأمهات الثكلى. تحياتي للأهل والأصدقاء هناك.
زهرة كندا: في كندا يعرفونك في مجالك الاعلامي الذي نجحت فيه بامتياز ولاتزالين.. نحن بشوق لنعرف بداياتك في لبنان وصولاً إلى كندا؟
كوليت: أنا ولدت وعندي نجمة الصحافة والميكرفون منذ طفولتي. وقد اهداني أستاذي في مدرستي الابتدائية كتاباً عن الصحافة وأنا في السابعة من عمري. كنت مندورة للصحافة كما كنت عريفة الحفلات كلها في ضيعتي وماحولها كذلك الأمر في الجامعة. لدي عشق للصحافة والخبريات. عشق للحضور والتواجد والخطاب إلى جانب رغبتي الدائمة بالصمت والاستماع والمراقبة.
وفي هذه العجالة اتذكر قريبة لعائلتي تعمل في اذاعة بيروت وكان أهلي يسألونها كوليت تريد أن تدرس الصحافة فكانت تجيب: لا اعملي في مجال آخر يطعمك خبزاً.. كوني معلمة مدرسة مثلاً.
نعم، درست في كلية الاعلام بالفنار ببيروت وكنت من الأوائل في دراستي وكانت أطروحتي في الجامعة بعنوان: السكر الاعلامي. وشبهت الاعلامي خلف الميكرفون بحالة المتصوف عندما يتحد بالخالق. ثم تخصصت في المسرح والنقد الفني الأدبي وعملت في صحيفة الديار من خلال الصفحة الثقافية. ثم غادرت لبنان عشية حرب التحرير ١٩٨٩ ووصلت إلى كندا وحصلت على ماجستير في الاتصالات من جامعة مونتريال.. وعام ١٩٩٠ تم انشاء القسم العربي في راديو كندا وقدمت الامتحان ونجحت.
نحن كاعلاميين مهنتنا مهنة المتاعب لانرى فيها يوم راحة . لذلك احببتها، ولأنني ضد النمطية والرتابة لذلك فضلت الإذاعة على باقي الوسائل الاعلامية كما اهتم فيها بتعاطي الشأن الاجتماعي والإنساني بعيداً عن الشأن السياسي الذي فيه رتابة أيضاً واجتهادك محدود.
زهرة كندا: حدثيناعن قامات كبيرة عاصرتها خلال عملك الاعلامي؟
كوليت: في إذاعة صوت لبنان طُلب مني تغطية ليوم عاصي الرحباني وكنت في البدايات وعاصي مكانته كبيرة جداً عندي وكانت الذكرى السنوية الأولى لوفاته فاتجهت بداية لمنزل خالته السيدة ماري الزيناتي وقد اخبرتني الكثير عن عاصي وفيروز وعن حبه الأول لجارته وطلبها من والدها الذي يعمل في البوليس فرفضه أهلها، ثم اقفلت على نفسها باب غرفتها لا تأكل ولا تشرب لشهر حتى وافتها المنية. كما قابلت السيدة صباح في منزلها وكان كلامها في المقابلة المسجلة كلاماً موزوناً وجميلاً. وعندما أوقفت التسجيل بدأت المقابلة الحقيقية ولم تترك أي خبرية عما تعرضت له من أقرب المقربين. ولا أنسى مقابلتي للكبير وديع الصافي في أحد مهرجانات لبنان وسجلت له الكثير المميز مما في جعبته.
كما التقيت بالكبير أنسي الحاج في مكتبه وهو العاشق الأول لفيروز ومما قاله لي: عيونك فيها لمعة مثل عيون فيروز. أنت من برج العقرب. كما اتذكر العظيم سعيد عقل الذي عاصر الرحابنة. واعتز بمقابلتي مراراً وتكراراً للمخرج الفلسطيني صبري الشريف الذي اقام في لبنان مع زوجته المصرية وكان يسمى ببطريرك الرحابنة..
في كندا قدمت في المسارح كبار النجوم أمثال: سميرة توفيق- كاظم الساهر- راغب علامة- عمرو دياب وقدمت المهرجان اللبناني في سنته الأولى واستدعيت للعديد من الاحتفالات في مجالات مختلفة حافظت من خلالها على اسمي ووجودي وبقيت حتى اللحظة كما شئت أن أكون ولم اقم بأي تسويات والحمدلله. وبقيت الصحافة لي كما حلمت بها. كما قابلت كبار الأسماء في الأغنية الكندية وفي مقدمتهم Loreena Mckennitt صاحبة الصوت الساحر التي ترسل لي جديد ألبوماتها باستمرار وتسأل عني كلما زارت مونتريـال.
زهرة كندا: الصعوبات والتحديات التي تواجه العمل الاعلامي؟
كوليت: اعتقد ان أبرز التحديات هي حاجة الاعلام إلى التمويل لكي تقدر أن تقدم وسيلة اعلامية تشرف عليها بنفسك كمتخصص وعاشق لا أن تعمل لدى أشخاص ربهم هو المال. وقد يرتهنون لحزب أو شهوات وأخطاء تخصهم وحدهم ولا يعنيهم الاعلام بحد ذاته. هم يستغلون الوسيلة الاعلامية لتحقيق أهداف لا تتوالف مع أهدافك كاعلامي حقيقي.
افتخر أنني كنت أول من اطلق بث إذاعي عربي في مونتريال سنة ١٩٩٢ عبر برنامج صدى لبنان تبعه برنامج المحطة وكنت ادفع ثمن الهواء للإذاعة التي احصل منها على ساعات للبث وبذات الوقت اتابع عملي مع راديو كندا، ولم يكن هناك مثيل لاقبال الجالية العربية واللبنانية خاصة للاثير وللتواصل مع الاذاعة. لقد جاهدت كثيراً وتعرضت لمطبات كثيرة ولم استسلم. وأنت أيضاً كابي على مااعتقد وأتمنى لك من كل قلبي أن تصل إلى مكان ما لأن الطريق صعبة وشاقة لتقديم اعلام حر وحقيقي. حالياً أنا اشعر بالسعادة فقد وصلت إلى نقطة الاكتمال(أي الاكتفاء) وليس الكمال. لأنه لايزال لدي هذا الخشوع والرهبة والاحترام للميكرفون والمشاهد. هي حالة انخطاف لايسهل وصفها.
زهرة كندا: ماذا تقولين عن تجربتك في إذاعة الشرق الأوسط في كندا؟
كوليت: تحياتي لأسرة الاذاعة. كانت تجربتي قصيرة نسبياً وكان لدي برنامج يومي يبث إلى مدينة هاليفاكس اسمه: “من يوم ليوم”.
كان عندي تحدي أن اقدم برنامج في فترة بعد الظهر وأن احافظ على أسلوبي الإعلامي المختلف الذي هو أسلوب السهل الممتنع. ونجح البرنامج في تقديم لون مختلف وكان له حضوره وجمهوره.
ولا انسى عبر منبركم أن أوجه تحية للسيدة الراقية الاعلامية زينة كرم لأن وجودها في الاذاعة آنذاك اعطاني مساحة من الحرية لأجل تقديم اعلام حقيقي. اشكرها واعتقد ان كل المستمعين في مونتريال اشتاقوا لها. حرام أن تغيب اعلامية بحجم زينة كرم.
زهرة كندا: ما حدث في لبنان اليوم من بعض الاعلاميين فيه خروج عن النص. وهذا يقودني لسؤال عن صفات الاعلامي الحقيقي؟
كوليت: الكمال إعاقة كما يقول أحد خبراء الاعلام.. للاسف الصفات المطلوبة نظرية يصعب تحقيقها على ارض الواقع اليوم وخاصة في لبنان لأن كل الناس تسوغ لهم أنفسهم ان يقولوا مايريدون بدون رقابة من أحد. الاعلامي يجب أن يبقى محايداً وإلا سأكون ناشطاً سياسياً عندها يجب أن اترك موقعي كاعلامي وانزل لساحة المواجهة. وعندما استمعت لزميل اعلامي في لبنان فلت معه العيار وهو المنضبط نوعاً ما في السابق فاستغربت وسألت بعض الأصدقاء في لبنان: لماذا يتصرف بهذه الطريقة؟ فأجابوني: خلص بيكفي بقى خلي يفش خلق الناس. وما اعرفه انا كابي أنه سابقاً كان بعض السياسيين يدفعون لبعض المهرجين ليفشوا خلق الناس لكي يدفنوا روح الثورة فيهم. مايفعله هذا الاعلامي في فش خلق الناس كمن يعطيهم مخدر ويكبت الثورة في داخلهم.
المصداقية هامة جدا إلى جانب تقصي الحقيقة مهما كلف الامر. أيضاً الاعلام رسالة. نحن السلطة الرابعة في كل بلد. اتذكر أحد المستمعين الأعزاء ذات مرة وعلى الهواء طلب مني أن اقول لهم من الذي يجب أن ينتخبوه، عشية الانتخابات في كيبيك. نحن مصدر ثقة ومسوولية والويل لنا ان كانت معرفتنا(نحن ابناء المعرفة) تسبب العثرة للناس. المفروض أن نبذل أقصى جهد وكل مااستطعنا لأجل أن نرتقي في الكلمة ونكون قد حققنا الغاية التي نبحث عنها في الإعلام الحقيقي. كن أنت. قل الكلمة ولا تتزلف لأحد. بالمناسبة فإن ايماني المسيحي الانجيلي الذي تربيت عليه والقيم التي حملتها هي صنوان لي في مهنة المتاعب التي امارسها.
زهرة كندا: الكبير سعد الله ونوس يقول: نحن محكومون بالأمل. ما الذي تحمله كوليت ضرغام منصف للقادمات من الأيام؟
كوليت: لبنان.. حبي الأول والأخير. الوجع الذي يعن عليك في كل وقت. اشتاق للبنان وللأماكن. اشتاق لضيعتي. يا ريت ماتهجرنا وكم هو بشع أن تقلع من مكانك. أكثر من نصف عمري عشته في كندا ولازلت اشعر بانتمائي للبنان، بجذوري هناك وتربة أهلي. أول فجر وأول غروب، أول حب، وأول كلمة كتبتها.
الزمن مرّ سريعاً ولم ينطرنا العمر. احب أن اعود إلى أماكن عشت فيها طفولتي وأن التقي من رحلوا بدون وداع.
وكما كنت سأبقى وما لدي من وزنات أحاول دوما أن اكثرهم. لي امل في حياة ثانية فليس من المعقول أن تنتهي الحياة هنا. هناك الكثير الذي نريد أن نقوم به وأنا لازلت واقفة هناك فكيف اعود ومن يعيدني؟
العزلة والحجر الذي عشناه في الكورونا كانوا حلوين واعادونا الى ذواتنا وصرنا نسال انفسنا الى أين نحن ذاهبون؟ وكم ابتعدنا عن الروحانية والأمور الحلوة في سبيل المادة والمصالح ومكاسب معينة؟
أتمنى أنني كنت خفيفة الظل. واشكرك أنك تصيب الجرح وتجعلنا نبدع في الكلام. اتمنى لك وللمجلة كل التوفيق. ربنا يحمي الجميع.
زهرة كندا: كان شرف لي وامتياز محاورتك. نثق أن لنا حياة باقية حيث لايفسد سوس ولا صدأ ربنا يخليك لنا ونحو المزيد من التألق.