بدأ عرض فيلم “لا وقت للموت” (No Time to Die) في نهاية شهر سبتمبر/أيلول الماضي في قاعة آلبرت هول بلندن، بحضور الأمير وليام وزوجته كيت ميدلتون، ومجموعة كبيرة من الطبقة الأرستقراطية الإنجليزية، فضلا عن أهم نجوم السينما العالميين، في إشارة واضحة إلى الأهمية التي تمتلكها شخصية جيمس بوند، الجاسوس البريطاني العتيد، الذي ظهر على الشاشة أول مرة منذ 51 سنة، في فيلم “دكتور نو” (Dr. No)، وقدم بعد ذلك في 25 فيلمًا مقتبسة من روايات ألفها إيان فيلمنغ.
جيمس بوند والصيغة السينمائية الأنجح
قبل عصر مارفل والسلاسل السينمائية الممتدة، كانت هناك سلسلة أطول أثبتت نجاحها بما لا يقاس، وهي سلسلة أفلام جيمس بوند، التي لم تستمر فقط أكثر من نصف قرن، بل تعاقب على بطولتها 6 نجوم مختلفين، ولم يؤثر ذلك في شعبيتها تمامًا، حتى مع الصعود والهبوط في المستوى الفني لهذه الأفلام ظلّت السلسلة تجتذب أجيالا مختلفة من المشاهدين الذين تربى بعضهم على مشاهدة العميل السري الأشهر في العالم.
ربما لم تتصل الأفلام ببعضها بصلة وثيقة، ولكنها امتلكت جميعها الصيغة السينمائية نفسها أو يمكن أن نصفها بالخلطة الناجحة للغاية التي حاولت كثير من الأفلام الهوليودية استنساخها في أعمالها اللاحقة، فيجب أن يكون بطل الفيلم بالتأكيد جاسوسا وسيما وذا مظهر ذكوري للغاية، يعمل على مهمة سرية وصعبة لا يستطيع القيام بها سواه، وعلى الأغلب ستكون خارج البلاد، وتنهي خطرا يهدد العالم، وفي هذه الرحلة لا بد أن يقابل بعض السيدات الفاتنات والخطرات اللواتي سيقعن في سحره على الفور، ويمنحنه عن طيب خاطر أسرارهن، وأجسادهن كذلك.
أصبح العميل 007 أو جيمس بوند نمطًا شائعًا لأبطال أفلام الجاسوسية، التي لم يستطع أحدها مضاهاة هذا النجاح المكتوب سابقًا لأفلام بوند الشهير، التي استمرت على هذا الوتيرة بلا كلل ولا ملل سواء من صنّاعها أو الجمهور، حتى أتى فيلم “لا وقت للموت” ليغير قواعد اللعبة قليلًا.
هل نضج جيمس بوند أم تغير العالم؟
على مدار 24 فيلمًا السابقة استمرت شخصية جيمس بوند بالتفاصيل ذاتها تقريبًا، في تكرار من المفترض أن يدعو إلى الملل، لكن في “لا وقت للموت” حدث التطور الدرامي الأول لها، فنجد أن العميل السري اليوم رجلًا في منتصف العمر، منهكًا يرغب في الاستقرار، ولكن الشكوك تحيط به حتى في أقرب الناس إليه، يتقاعد في جزيرة نائية، ولكن مرة أخرى يدعوه نداء الواجب والصداقة، ليقوم بمهمة أخيرة، تجعله يراجع قرارات حياته.
يتخلى جيمس بوند عن عنجهية الرجل الوسيم القوي الذي لا يماثله أحد، بل يتقبل إعطاء المخابرات البريطانية رقمه السري 007 إلى عميلة أخرى، لا يحاول إيقاع النساء من حوله في حبائله طوال الوقت كالمعتاد، ويرغب أن يستقر في حياة سعيدة، ولكن القدر يعانده بالتأكيد.
يمكن إرجاع هذا التطور الشديد إلى أسباب متعددة، منها أنه الفيلم الأخير من بطولة دانيال كريج للسلسلة، والشخصية يجب أن تحظى بخاتمة مختلفة وجيدة بعد 5 أفلام استطاعت أن تقدم ترابطًا بسيطًا في الأحداث في ما بينها، على عكس الأفلام السابقة، وكثير من النقاد والمشاهدين يشيدون بأداء كريج للشخصية وبعضهم يراه بالفعل أفضل من قدّمها.
لكن السبب الأهم وراء هذا التغيير الكبير في طبيعة شخصية جيمس بوند هو تطور العالم اليوم، ففي 2021 وبعد حملة “أنا أيضًا” (Me Too) والميل نحو الصوابية السياسية ونبذ التمييز على أساس اللون أو الجنس لم يعد من المقبول مجتمعيًا من نسبة كبيرة من المشاهدين تقديم بطل ذكوري، يشعر بالقوة عبر اختيار عشيقاته الحسناوات وإلقائهن جانبًا بعد ذلك، ولم يعد هذا النوع من الأبطال هو الذي يروّج له حتى يتماهى معه المشاهدون.
فكان يجب تغييره بشكل يتناسب مع العالم من حوله، وفي الوقت ذاته يتلاءم مع طبيعة الشخصية نفسها، والممثل الذي كانت أول مشاركة له في السلسلة وهو في منتصف الثلاثينيات ها هو الآن في الخمسينيات، فتضافرت هذه العوامل الثلاثة لتقدم لنا الوجه الجديد من جيمس بوند، الذي قد أربك بالتأكيد المشاهدين، ولكن في الوقت ذاته أثار إعجابهم، بخاصة مع الالتزام ببقية الصيغة الناجحة، من التصوير في أماكن خارجية مبهرة، وتصوير مشاهد الحركة والقتال الممتازة، واختيار شرير قوي ومختلف، يقدم دوره هنا الممثل ذو الأصول المصرية رامي مالك.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل ستكمل السلسلة على الوتيرة ذاتها والنضوج مع بطلها القادم الذي لم يعلن عنه حتى الآن؟ أم سنبدأ من جديد مع ممثل شاب آخر يعود إلى صيغة جيمس بوند وبناء شخصيته التقليدية؟ في الحقيقة إن هذا الفيلم بنجاحه الكبير حتى الآن نقديًا وجماهيريًا سيترك أثرًا بالتأكيد في صناع الأفلام القادمة في السلسلة، وربما أخذها بالفعل بخطوات حثيثة إلى الأمام.