استنفرت المنظمات الحكومية الرسمية وأطلقت مبادرات أهلية لمواجهة آثار الزلزال الكارثية الذي ضرب سوريا فجر أمس الاثنين. وترافق الاستنفار مع استجابة عربية ودولية غير مسبوقة للمساعدة والإنقاذ.
بدا المشهد مختلفاً هذه المرة، فالمصيبة وحّدت سوريا، ليتم احتساب ضحايا مناطق سيطرة الحكومة ومناطق المعارضة في جدول واحد تحت عنوان: “مهما حصل، الجرح السوري لا يجب أن يعرف التفرقة”.
تباينت احصاءات الضحايا والخسائر واختلفت بين منطقة وأخرى، إلّا أنّ الأكيد أنّ مدناً سورية دفعت ثمناً باهظاً في الأرواح، فحتى صباح اليوم الثلثاء سجل في مناطق سيطرة الحكومة نحو 800 وفاة و1450 إصابة، وأكثر من ذلك في منطقة إدلب وريفها التي تقع خارج سيطرة دمشق. لكن الوقت لم يحن بعد ليلتئم هذا الجرح ويجمع كل الخاسرين في صف واحد لمواجهة الكارثة.
المجتمع المدني
وضع مئات من الشباب السوريين أنفسهم في تصرف المؤسسات الحكومية والجهات غير الحكومية في عموم المحافظات، مستنفرين لإغاثة الضحايا. ومن دمشق توجه عشرات الشبان إلى مناطق حلب وحماة واللاذقية وجبلة وطرطوس للمساهمة في رفع الأنقاض وإجلاء الناس المتضررين وتقديم الإسعافات الممكنة لهم.
يقول الطبيب علي سنورة من دمشق لـ”النهار العربي” إنّه تحرك مع ساعات صباح يوم أمس الإثنين قاصداً حلب برفقة عدد من زملائه واضعين أنفسهم تحت تصرف الجهات المعنية هناك، “هذا أقل واجب نقدمه لبلدنا المنكوب اليوم، ونحن ندرك جيداً المشاكل التي تواجه القطاع الصحي في سوريا، لذا كان التحرك ضرورياً لتقديم يد العون وأي مساعدة ممكنة ولو بدت متواضعة إلّا أنّها ستغير شيئاً من الواقع”.
أما الطالب الجامعي مفيد حمودة وهو من دمشق أيضاً فقد جمع سبعة من رفاقه واتجهوا صباح أمس إلى محافظة حماة للمساهمة في عملية إزالة الأنقاض، وقال: “لا، هذا ليس واجباً فحسب، هذه قضية بحد ذاتها، وقضية وطنية كبرى بحجم البلد وأكبر لأنّها تعبّر عن آلام شعب ينتقل من مصيبة إلى أخرى من دون استراحة. وعموماً نحن لسنا وحدنا، هناك مئات وربما أكثر من المتطوعين وهم منتشرون الآن في كل المحافظات. هذه سوريا التي تجمعنا رغم الألم، ثبت بالنتيجة أنّ محبتنا لبعضنا أكبر، وإلا ماذا يدفعنا لنكون في العراء وهذا البرد الشديد نساعد الناس بقلوبنا وأجسادنا؟”.
ومن حمص انطلقت دفعات من المتطوعين تجاه المدن المنكوبة، وتواصل “النهار العربي” مع الشاب أحمد سليمان الذي وصل إلى اللاذقية مع رفاقه للمساهمة في عمليات إزالة الأنقاض وانتشال العالقين تحتها، وقال: “وصلت بعد فجر أمس إلى اللاذقية، المشاهد كانت مأسوية وأليمة، وفوق المعاناة برد لا يوصف وأناس أصبحوا من دون منازل، غير أولئك الذين قضوا تحت الدمار، أو الذين ما زالوا عالقين تحت الركام. نعمل كل ما بوسعنا لمساعدة المجتمع المستنفر في اللاذقية”.
التحرك المجتمعي والأهلي السريع جاء معيناً لجهود الدفاع المدني والهلال الأحمر السوري وهيئات المحافظات والمؤسسات وقوات الجيش للمساهمة في عمليات رفع الأنقاض، ولكنّ ما حدث بالتأكيد أطلق جرس إنذار، فالبلد بحاجة إلى مساعدات دولية عاجلة، وإلى معدات، تبيّن، ولو كان معروفاً إلى حد ما، أنّها مفقودة، وأنّ سوريا بعد الدمار الهائل في بناها التحتية وضعف مؤسساتها الخدماتية تحتاج إلى علاجات إسعافيه طارئة تعيد لها القدرة على التعامل مع كوارث قد تتجدد في أي لحظة.
وفي حمص التي شعر سكانها بالزلزال قوياً من دون حدوث انهيار مبان أو وقوع ضحايا، تحرك فيها المجتمع الأهلي وبادر كثر لعرض شقق لإيواء متضررين من الزلزال، حيث تم تجهيز عشرات الشقق السكنية وسبعة مواقع إضافية تحسباً لأي خطر محتمل مقبل. وفي اللاذقية تم تجهيز 11 مأوى و6 فنادق، وكذلك في حماة وحلب وطرطوس ودمشق.
وأبدى العديد من سائقي السيارات والشاحنات من مختلف المحافظات جهوزيتهم لنقل المعونات والمستلزمات مجاناً للمنكوبين في المدن السورية.
وكانت منظمة الأمانة السورية للتنمية قد فتحت أبواب كل مناراتها المجتمعية في محافظات اللاذقية وحلب وحماه لاستضافة الأهالي ممن خسروا منازلهم، وحرصت على تقديم كل ما يلزم لإقامتهم خلال هذه الفترة الحرجة.
ووفق الناطق الرسمي باسم الهلال الأحمر العربي السوري، رهف عبود، فإنّه نفذ عمليات استجابة مستمرة من خلال 500 متطوع يعملون على الأرض في المناطق المنكوبة، ويعانون من بعض الصعوبات اللوجستية، إضافة إلى سوء الأحوال الجوية، ويمكن رفع عدد المتطوعين عند الحاجة لذلك.
ارفعوا العقوبات
وفي السياق، أطلق ناشطون وسماً دعوا فيه إلى رفع العقوبات عن سوريا، فهذه المرة فعلاً اتضح مدى تأثيرها لا على يوميات الناس، فذلك أمر آخر، ولكن على بنية البلد بحد ذاتها، البلد الذي ينبش المسعفون الركام بأياديهم وببعض المعدات البسيطة من حفارات بدائية بحثاً عن ناجين.
وكانت دول مثل لبنان وتونس وروسيا وإيران وكوبا والإمارات والصين والجزائر ومصر والأردن وفرنسا والسويد وألمانيا وإسبانيا والعراق، أبدت استعداداً لمساعدة سوريا، بعضها تواصل مباشرةً مع القيادة السورية، وبعضها الآخر أمر بإرسال مساعدات فورية بدأت تصل تباعاً إلى دمشق. وفتح لبنان الأجواء والموانئ لتسهيل وصول المساعدات وفرق الإنقاذ إلى سوريا.
وناشدت سوريا رسمياً عبر وزارة الخارجية الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، والمنظمات الدولية، لدعم جهود الحكومة السورية في مواجهة تداعيات الزلزال.
أقسى من الحرب
“كنت نائمة في حي عكرمة بحمص، اهتز منزلي كلّه دفعةً واحدة، نبض قلبي بطريقة قاتلة لثوان لم أشعر في حياتي بمثل هذا الخوف، أنا التي خبرت الحرب في حمص يوماً بيوم، حين كانت المدينة شاهدة على أم المعارك في سوريا”، تقول الشابة ميساء عبد الخالق من حمص لـ”النهار العربي”.
وتضيف: “هرع الناس إلى الشوارع، لم يبق أحد في منزله، أصوات بكاء وصراخ ونظرات خوف في وجوه الناس، لم نعتد شعوراً كهذا من قبل، على الفور نزلت أنا وأهلي إلى الشارع خلال دقائق من حصول الزلزال، وسط تأويلات من دون معلومات مؤكدة في بادئ الأمر”.
وفي دمشق أيضاً استيقظ الناس يعتريهم خوف شديد نتيجة هزّة غير مسبوقة ضربت البلاد، ففي جرمانا بريف دمشق تقول الشابة منى معروف إنّها نزلت إلى الشارع قبل أن تفهم ما يحصل، ومن ثم بدأت تقرأ عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن هزّة أرضية عنيفة للغاية ضربت المحافظات السورية.
تقول: “لم أختبر بحياتي شعوراً كهذا من الخوف، وسقطت على الأرض حين علمت بانهيار أبنية في اللاذقية حيث يسكن أهلي هناك. صرت مثل المجنونة أريد الذهاب إليهم، قبل أن أتمكن من التواصل معهم والاطمئنان عليهم. جاؤوا إلى دمشق. أنا أردت ذلك، فقد سمعت أنّ اللاذقية مهددة بزلازل أخرى قريباً. يبقى هذا احتمالاً قائماً، فلشدة ما قرأت من معلومات وتحليلات صرت خائفة أكثر، ولكن على الأقل تبقى دمشق مضمونة أكثر، ومن يدري، نسأل الله السلامة”.
لم يكن المشهد في سوريا يوماً بهذه القسوة حتى في عزّ أيام الحرب، فالكارثة فرضت حداداً شاملاً بسبب موت هز الجميع من دون تفرقة. جرحٌ جديد وضحايا جدد، أجساد لينّة لم تعرف الراحة من عقد قهرتها الطبيعة هذه المرة، جرح في أجساد نهشها الجوع، ثم الهجرة، وهذه مرةٌ أخرى، وعسى أن تكون أخيرة.